فصل: سئل عن رجل عقد العقد ولم يدخل بها ثم طلقها ثلاثا

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **


/ باب المحرمات في النكاح

 قاعدة في المحرمات في النكاح نسبًا وصهرًا

سئل الشيخ ـ رحمه الله ـ عن بيانها مختصرًا‏؟‏

فأجاب‏:‏

الحمد لله رب العالمين، أما المحرمات ‏[‏بالنسب‏]‏ فالضابط فيه‏:‏ أن جميع أقارب الرجل من النسب حرام عليه، إلا بنات أعمامه، وأخواله، وعماته، وخالاته‏.‏ وهذه الأصناف الأربعة هن اللاتي أحلهن الله لرسوله صلى الله عليه وسلم بقوله‏:‏ ‏{‏وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاء قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عليكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاء الَّلاتِي لاَ تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ‏}‏الآية ‏[‏الأحزاب‏:‏ 50‏]‏‏.‏ فأحل ـ سبحانه ـ لنبيه صلى الله عليه وسلم من النساء أجناسا أربعة، ولم يجعل خالصا له من دون المؤمنين إلا الموهوبة؛ التي تهب نفسها للنبي، فجعل هذه من خصائصه؛ له أن يتزوج الموهوبة بلا مهر، وليس هذا لغيره باتفاق المسلمين، بل ليس لغيره أن يستحل بضع امرأة إلا مع وجوب مهر، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ أَن تَبْتَغُواْ بِأَمْوَالِكُم مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ‏}‏‏[‏النساء‏:‏ 24‏]‏‏.‏

واتفق العلماء على أن من تزوج امرأة ولم يقدر لها مهرًا، صح النكاح، ووجب لها المهر إذا دخل بها، وإن طلقها قبل الدخول فليس لها مهر، بل/ لها المتعة بنص القرآن، وإن مات عنها ففيها قولان‏.‏ وهي ‏[‏مسألة بَرْوَع بنت واشق‏]‏ التي استفتي عنها ابن مسعود شهرًا، ثم قال‏:‏ أقول فيها برأيي؛ فإن يكن صوابا فمن الله، وإن يكن خطأ فمنى ومن الشيطان، والله ورسوله بريئان منه‏:‏ لها مهر نسائها، لاوَكْس، ولا شَطَط، وعليها العدة ولها الميراث‏.‏ فقام رجال من أشجع فقالوا‏:‏ نشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضي في بروع بنت واشق بمثل ما قضيت به في هذه‏.‏ قال علقمة‏:‏ فما رأيت عبد الله فرح بشيء كفرحه بذلك‏.‏ وهذا الذي أجاب به ابن مسعود هو قول فقهاء الكوفة، كأبي حنيفة وغيره، وفقهاء الحديث كأحمد وغيره، وهو أحد قولي الشافعي‏.‏ والقول الآخر له، وهو مذهب مالك‏:‏ أنه لا مهر لها، وهو مروي عن على، وزيد، وغيرهما من الصحابة‏.‏

وتنازعوا في ‏[‏النكاح إذا شرط فيه نفي المهر‏]‏‏:‏ هل يصح النكاح‏؟‏على قولين في مذهب أحمد وغيره‏:‏ أحدهما‏:‏ يبطل النكاح، كقول مالك‏.‏ والثاني‏:‏ يصح، ويجب مهر المثل، كقول أبي حنيفة والشافعي‏.‏ والأولون يقولون‏:‏ هو ‏[‏نكاح الشِّغَار‏]‏ الذي أبطله النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه نفي فيه المهر، وجعل البُضْع مهرًا للبُضْع‏.‏ وهذا تعليل أحمد بن حنبل في غير موضع من كلامه؛ وهذا تعليل أكثر قدماء أصحابه‏.‏ والآخرون‏:‏ منهم من يصحح نكاح الشغار، كأبي حنيفة؛ وقوله أقيس على هذا الأصل؛ لكنه مخالف للنص وآثار الصحابة، فإنهم أبطلوا نكاح الشغار‏.‏ ومنهم من يبطله / ويعلل البطلان إما بدعوي التشريك في البُضْع، وإما بغير ذلك من العلل، كما يفعله أصحاب الشافعي، ومن وافقهم من أصحاب أحمد؛ كالقاضي أبي يعلى وأتباعه والقول الأول أشبه بالنص والقياس الصحيح، كما قد بسط في موضعه‏.‏ وتنازعوا ـ أيضا ـ في انعقاد النكاح مع المهر بلفظ ‏[‏التمليك‏]‏ و ‏[‏الهبة‏]‏ وغيرهما‏:‏ فجوز ذلك الجمهور؛ كمالك وأبي حنيفة، وعليه تدل نصوص أحمد، وكلام قدماء أصحابه‏.‏ ومنعه الشافعي وأكثر متأخرى أصحاب أحمد، كابن حامد والقاضي ومن تبعهما، ولم أعلم أحدًا قال هذا قبل ابن حامد من أصحاب أحمد‏.‏

والمقصود هنا أن الله تعالى لم يخص رسوله صلى الله عليه وسلم إلا بنكاح الموهوبة بقوله‏:‏ ‏{‏وَامْرَأَةً مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَن يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ‏}‏‏[‏الأحزاب‏:‏ 50‏]‏، فدل ذلك على أن سائر ما أحله لنبيه صلى الله عليه وسلم حلال لأمته، وقد دل على ذلك قوله‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا‏}‏‏[‏الأحزاب‏:‏ 37‏]‏، فلما أحل امرأة المتبني، لا سيما للنبي صلى الله عليه وسلم ليكون ذلك إحلالا للمؤمنين، دل ذلك على أن الإحلال له إحلال لأمته، وقد أباح له من أقاربه بنات العم والعمات، وبنات الخال والخالات، وتخصيصهن بالذكر يدل على تحريم ما سواهن، لا سيما وقد قال بعد ذلك‏:‏ ‏{‏لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاء مِن بَعْدُ وَلَا أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ‏}‏‏[‏الأحزاب‏:‏ 52‏]‏ أي‏:‏ من بعد هؤلاء / اللاتي أحللناهن لك، وهن المذكورات في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏حُرِّمَتْ عليكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاَتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ‏}‏‏[‏النساء‏:‏ 23‏]‏، فدخل في ‏[‏الأمهات‏]‏ أم أبيه، وأم أمه وإن علت بلا نزاع أعلمه بين العلماء‏.‏ وكذلك دخل في ‏[‏البنات‏]‏ بنت ابنه، وبنت ابن ابنته وإن سفلت بلا نزاع أعلمه‏.‏ وكذلك دخل في ‏[‏الأخوات‏]‏ الأخت من الأبوين، والأب، والأم‏.‏ ودخل في ‏[‏العمات‏]‏ و‏[‏الخالات‏]‏ عمات الأبوين، وخالات الأبوين‏.‏ وفي ‏[‏بنات الأخ، والأخت‏]‏ ولد الأخوة وإن سفلن، فإذا حرم عليه أصوله وفروعه وفروع أصوله البعيدة؛ دون بنات العم والعمات وبنات الخال والخالات‏.‏

وأما ‏[‏المحرمات بالصهر‏]‏ فيقول‏:‏ كل نساء الصهر حلال له، إلا أربعة أصناف، بخلاف الأقارب‏.‏ فأقارب الإنسان كلهن حرام، إلا أربعة أصناف‏.‏ وأقارب الزوجين كلهن حلال، إلا أربعة أصناف، وهن حلائل الآباء، والأبناء، وأمهات النساء، وبناتهن، فيحرم على كل من الزوجين أصول الآخر وفروعه‏.‏ يحرم على الرجل أم امرأته؛ وأم أمها وأبيها وإن علت‏.‏ وتحرم عليه بنت امرأته، وهي الربيبة‏.‏ وبنت بنتها وإن سفلت، وبنت الربيب أيضا حرام؛ كما نص عليه الأئمة المشهورون؛ الشافعي وأحمد وغيرهما، ولا أعلم فيه نزاعا‏.‏ ويحرم عليه أن يتزوج بامرأة أبيه وإن علا؛ وامرأة ابنه وإن سفل‏.‏ فهؤلاء ‏[‏الأربعة‏]‏ هن المحرمات بالمصاهرة في كتاب الله، وكل من الزوجين / يكون أقارب الآخر أصهارًا له، وأقارب الرجل أحماء المرأة، وأقارب المرأة أختان الرجل‏.‏ وهؤلاء الأصناف الأربعة يحرمن بالعقد، إلا الربيبة‏.‏ فإنها لا تحرم حتى يدخل بأمها، فإن الله لم يجعل هذا الشرط إلا في الربيبة‏.‏ والبواقي أطلق فيهن التحريم‏.‏ فلهذا قال الصحابة‏:‏ أبهموا ما أبهم الله‏.‏ وعلى هذا الأئمة الأربعة وجماهير العلماء‏.‏

وأما بنات هاتين وأمهاتهما فلا يحرمن، فيجوز له أن يتزوج بنت امرأة أبيه وابنه باتفاق العلماء؛ فإن هذه ليست من حلائل الآباء والأبناء، فإن ‏[‏الحليلة‏]‏ هي الزوجة‏.‏ وبنت الزوجة وأمها ليست زوجة، بخلاف الربيبة‏.‏ فإن ولد الربيب ربيب؛ كما أن ولد الولد ولد، وكذلك أم أم الزوجة أم للزوجة وبنت أم الزوجة لم تحرم، فإنها ليست أما‏.‏ فلهذا قال من قال من الفقهاء‏:‏ بنات المحرمات محرمات، إلا بنات العمات والخالات، وأمهات النساء، وحلائل الآباء والأبناء‏.‏ فجعل بنت الربيبة محرمة، دون بنات الثلاثة‏.‏ وهذا مما لا أعلم فيه نزاعا‏.‏

ومن وطئ امرأة بما يعتقده نكاحا فإنه يلحق به النسب، ويثبت فيه حرمة المصاهرة باتفاق العلماء فيما أعلم، وإن كان ذلك النكاح باطلا عند الله ورسوله؛ مثل الكافر إذا تزوج نكاحا محرما في دين الإسلام، فإن هذا يلحقه فيه النسب وتثبت به المصاهرة‏.‏ فيحرم على كل واحد منهما أصول الآخر وفروعه باتفاق العلماء، وكذلك كل وطء اعتقد أنه ليس حراما وهو حرام؛ مثل / من تزوج امرأة نكاحا فاسدًا، وطلقها، وظن أنه لم يقع به الطلاق، لخطئه أو لخطأ من أفتاه، فوطئها بعد ذلك، فجاءه ولد؛ فههنا يلحقه النسب، وتكون هذه مدخولا بها، فتحرم، وإن كانت ربيبة لم يدخل بأمها باتفاق العلماء‏.‏ فالكفار إذا تزوج أحدهم امرأة نكاحا يراه في دينه وأسلم بعد ذلك ابنه ـ كما جري للعرب الذين أسلم أولادهم، وكما يجري في هذا الزمان كثيرا ـ فهذا ليس له أن يتزوج بامرأة ابنه، وإن كان نكاحها فاسدًا باتفاق العلماء‏.‏ فالنسب يتبع باعتقاد الوطء للحل؛ وإن كان مخطئا في اعتقاده‏.‏ والمصاهرة تتبع النسب‏.‏ فإذا ثبت النسب فالمصاهرة بطريق الأولى‏.‏

وكذلك ‏[‏حرية الولد‏]‏ يتبع اعتقاد أبيه؛ فإن الولد يتبع أباه في ‏[‏النسب والحرية‏]‏، ويتبع أمه في هذا باتفاق العلماء‏.‏ ويتبع في الدين خيرهما دينا عند جماهير أهل العلم، وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي وأحمد، وأحد القولين في مذهب مالك‏.‏ فمن وطئ أمة غيره بنكاح أوزنًا كان ولده مملوكا لسيدها، وإن اشتراها ممن ظن أنه مالك لها أو تزوجها يظنها حرة، فهذا يسمي ‏[‏المغرور‏]‏ وولدها حر باتفاق الأئمة؛ لاعتقاده أنه يطأ من يصير الولد بوطئها حرًا، فالنسب والحرية يتبع اعتقاد الواطئ وإن كان مخطئا، فكذلك تحريم المصاهرة، وإنما تنازع العلماء في الزنا المحض‏:‏ هل ينشر حرمة المصاهرة‏؟‏فيه نزاع مشهور بين السلف والخلف‏.‏ التحريم قول أبي حنيفة وأحمد، والجواز مذهب الشافعي، وعن مالك روايتان‏.‏

/ وسئل شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ عن رجل كان له سرية بكتاب، ثم توفي إلى رحمة الله، وله ابن ابن، وقد تزوج سرية جده المذكور‏:‏ فهل يحل ذلك‏؟‏

فأجاب‏:‏

لا يجوز له تزويج سرية جده التي كان يطؤها باتفاق المسلمين، وإذا تزوجها فرق بينهما؛ ولا يحل إبقاؤه معها، وإن استحل ذلك استتيب ثلاثا، فإن تاب وإلا قتل‏.‏

وقال الشيخ ـ رحمه الله تعالى‏:‏

 فصل

وأما تحريم ‏[‏الجمع‏]‏ فلا يجمع بين الأختين بنص القرآن؛ ولا بين المرأة وعمتها، ولا بين المرأة وخالتها‏.‏ لا تنكح الكبري على الصغري، ولا الصغري على الكبري؛ فإنه قد ثبت في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم نهي عن ذلك؛فروي أنه قال‏:‏ ‏(‏إنكم إذا فعلتم ذلك قطعتم بين أرحامكم‏)‏‏.‏ ولو رضيت إحداهما بنكاح الأخرى عليها لم يجز؛ فإن الطبع يتغير؛ ولهذا لما عرضت أم حبيبة على النبي صلى الله عليه وسلم أن يتزوج أختها، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أو تحبين ذلك‏؟‏‏)‏‏.‏ فقالت‏:‏ / لست لك بمخلية، وأحق من شركني في الخير أختي، فقال‏:‏ ‏(‏إنها لا تحل لي‏)‏‏.‏ فقيل له‏:‏ إنا نتحدث أنك ناكح درة بنت أبي سلمة، فقال‏:‏ ‏(‏لو لم تكن ربيبتي في حجري لما حلت لي؛ فإنها بنت أخي من الرضاع، أرضعتني وأباها أبا سلمة ثويبة أمة أبي لهب، فلا تعرضن على بناتكن ولا أخواتكن‏)‏‏.‏ وهذا متفق عليه بين العلماء‏.‏

والضابط في هذا‏:‏ أن كل امرأتين بينهما رحم محرم فإنه يحرم الجمع بينهما، بحيث لو كانت إحداهما ذكرًا لم يجز له التزوج بالأخري؛ لأجل النسب‏.‏ فإن الرحم المرحم لها ‏[‏أربعة أحكام‏]‏‏:‏ حكمان متفق عليهما، وحكمان متنازع فيهما، فلا يجوز ملكهما بالنكاح، ولا وطئهما‏.‏ فلا يتزوج الرجل ذات رحمه المحرم، ولا يتسري بها‏.‏ وهذا متفق عليه، بل هنا يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب، فلا تحل له بنكاح، ولا ملك يمين، ولا يجوز له أن يجمع بينهما في ملك النكاح، فلا يجمع بين الأختين، ولا بين المرأة وعمتها وبين المرأة وخالتها‏.‏ وهذا ـ أيضا ـ متفق عليه‏.‏ ويجوز له أن يملكهما، لكن ليس له أن يتسراهما‏.‏ فمن حرم جمعهما في النكاح حرم جمعهما في التسري، فليس له أن يتسري الأختين ولا الأمة وعمتها، والأمة وخالتها‏.‏ وهذا هو الذي استقر عليه قول أكثر الصحابة، وهو قول أكثر العلماء‏.‏

وهم متفقون على أنه لا يتسري من تحرم عليه بنسب أو رضاع، وإنما تنازعوا في الجمع، فتوقف بعض الصحابة فيها، وقال‏:‏ أحلتهما آية، وحرمتهما / آية، وظن أن تحريم الجمع قد يكون كتحريم العدد؛ فإنه له أن يتسري ما شاء من العدد، ولا يتزوج إلا بأربع‏.‏ فهذا تحريم عارض، وهذا عارض، بخلاف تحريم النسب والصهر فإنه لازم؛ ولهذا تصير المرأة من ذوات المحارم بهذا أولا تصير من ذوات المحارم بذلك، بل أخت امرأته أجنبية منه لا يخلو بها ولا يسافر بها، كما لا يخلو بما زاد على أربع من النساء؛ لتحريم ما زاد على العدد‏.‏ وأما الجمهور فقطعوا بالتحريم، وهو المعروف من مذاهب الأئمة الأربعة وغيرهم‏.‏ قالوا‏:‏ لأن كل ما حرم الله في الآية بملك النكاح حرم بملك اليمين، وآية التحليل وهي قوله‏:‏ ‏{‏أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ‏}‏‏[‏النساء‏:‏ 3‏]‏، إنما أبيح فيها جنس المملوكات، ولم يذكر فيها ما يباح ويحرم من التسري، كما لم يذكر ما يباح ويحرم من الممهورات، والمرأة يحرم وطؤها إذا كانت معتدة ومحرمة وإن كانت زوجة أو سرية‏.‏ وتحريم العدد كان لأجل وجوب العدل بينهن في القسم، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي اليتَامَى فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُواْ‏}‏‏[‏النساء‏:‏ 3‏]‏ أي‏:‏ لا تجوروا في القسم، هكذا قال السلف وجمهور العلماء‏.‏ وظن طائفة من العلماء أن المراد‏:‏ ألا تكثر عيالكم‏.‏ وقالوا‏:‏ هذا يدل على وجوب نفقة الزوجة‏.‏ وغَلَّط أكثر العلماء من قال ذلك، ولفظا ومعني‏.‏ أما اللفظ‏:‏ فلأنه يقال‏:‏ عال يعول‏:‏ إذا جار‏.‏ وعال يعيل‏:‏ إذا افتقر‏.‏ وأعال يعيل‏:‏ إذا كثر عياله‏.‏ وهو ـ سبحانه ـ قال‏:‏ ‏{‏تَعُولُوا‏}‏ لم يقل‏:‏ تعيلوا‏.‏ وأما المعني‏:‏ فإن كثرة النفقة والعيال يحصل بالتسري كما يحصل بالزوجات، ومع هذا فقد أباح / مما ملكت اليمين ما شاء الإنسان بغير عدد؛ لأن المملوكات لا يجب لهن قسم، ولا يستحققن على الرجل وطأ؛ ولهذا يملك من لا يحل له وطؤها كأم امرأته وبنتها وأخته وابنته من الرضاع، ولو كان عنيناً أو موليا لم يجب أن يزال ملكه عنها‏.‏ والزوجات عليه أن يعدل بينهن في القسم، ‏[‏وخير الصحابة أربعة‏]‏ فالعدل الذي يطيقه عامة الناس ينتهي إلى الأربعة‏.‏ وأما رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن الله قواه على العدل فيما هو أكثر من ذلك ـ على القول المشهور ـ وهو وجوب القسم عليه، وسقوط القسم عنه على القول الآخر، كما أنه لما كان أحق بالمؤمنين من أنفسهم أحل له التزوج بلا مهر‏.‏

قالوا‏:‏ وإذا كان ‏[‏تحريم جمع العدد‏]‏ إنما حرم لوجوب العدل في القسم، وهذا المعني منتف في المملوكة؛ فلهذا لم يحرم عليه أن يتسري بأكثر من أربع، بخلاف الجمع بين الأختين؛ فإنه إنما كان دفعا لقطيعة الرحم بينهما، وهذا المعني موجود بين المملوكتين، كما يوجد في الزوجتين، فإذا جمع بينهما بالتسري حصل بينهما من التغاير ما يحصل إذا جمع بينهما في النكاح، فيفضي إلى قطيعة الرحم‏.‏

ولما كان هذا المعني هو المؤثر في الشرع، جاز له أن يجمع بين المرأتين إذا كان بينهما حرمة بلا نسب أو نسب بلا حرمة‏.‏ فالأول مثل أن يجمع بين المرأة وابنة زوجها‏.‏ كما جمع عبد الله بن جعفر لما مات على بن أبي طالب بين امرأة على وابنته‏.‏

/وهذا يباح عند أكثر العلماء؛ الأئمة الأربعة وغيرهم‏.‏ فإن هاتين المرأتين وإن كانت إحداهما تحرم على الأخرى فذاك تحريم بالمصاهرة لا بالرحم؛ والمعني إنما كان بتحريم قطيعة الرحم، فلم يدخل في آية التحريم لا لفظا ولا معني‏.‏ وأما إذا كان بينهما رحم غير محرم؛ مثل بنت العم والخال، فيجوز الجمع بينهما، لكن هل يكره‏؟‏فيه قولان‏:‏ هما روايتان عن أحمد؛ لأن بينهما رحما غير محرم‏.‏

وأما ‏[‏الحكمان المتنازع فيهما‏]‏ فهل له أن يملك ذا الرحم المحرم‏؟‏وهل له أن يفرق بينهما في ملك فيبيع أحدهما دون الآخر‏؟‏هاتان فيهما نزاع، وأقوال ليس هذا موضعها‏.‏

و ‏[‏تحريم الجمع‏]‏ يزول بزوال النكاح، فإذا ماتت إحدى الأربع، أو الأختين، أو طلقها، أو انفسخ نكاحها، وانقضت عدتها، كان له أن يتزوج رابعة، ويتزوج الأخت الأخرى باتفاق العلماء، وإن طلقها طلاقًا رجعيًا لم يكن له تزوج الأخرى عند عامة العلماء‏.‏ الأئمة الأربعة وغيرهم، وقد روي عبيدة السلماني، قال‏:‏ لم يتفق أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم على شيء كاتفاقهم على أن الخامسة لا تنكح في عدة الرابعة، ولا تنكح الأخت في عدة أختها وذلك لأن الرجعية بمنزلة الزوجة، فإن كلا منهما يرث الآخر، لكنها صائرة إلى البينونة، وذلك لا يمنع كونها زوجة، كما لو أحالها إلى أجل مثل أن يقول‏:‏ إن أعطيتني ألفا في رأس الحول فأنت طالق‏.‏ فإن هذه صائرة إلى بينونة / صغري، ومع هذا فهي زوجة باتفاق العلماء، وإذا قيل‏:‏ لا يمكن أن تعطيه العوض المعلق به فيدوم النكاح‏؟‏قيل‏:‏ والرجعية يمكن أن يراجعها فيدوم النكاح‏.‏ وكذلك لو قال‏:‏ إن لم تلدي في هذا الشهر فأنت طالق‏.‏ وكانت قد بقيت على واحدة فههنا هي زوجة لا يزول نكاحها إلا إذا انقضي الشهر ولم تلد، وإن كانت صائرة إلى بينونة‏.‏ وإنما تنازع العلماء‏:‏ هل يجوز له وطؤها، كما تنازعوا في وطء الرجعية‏؟‏وأما إذا كان الطلاق بائنا‏:‏ فهل يتزوج الخامسة في عدة الرابعة‏؟‏والأخت في عدة أختها‏؟‏هذا فيه نزاع مشهور بين السلف والخلف‏.‏ والجواز مذهب مالك والشافعي‏.‏ والتحريم مذهب أبي حنيفة وأحمد‏.‏ والله أعلم‏.‏

/ وسئل ـ رحمه الله ـ عن قوم يتزوج هذا أخت هذا، وهذا أخت هذا أو ابنته، وكلما أنفق هذا أنفق هذا؛ وإذا كسا هذا كسا هذا، وكذلك في جميع الأشياء‏.‏ وفي الإرضاء والغضب‏:‏ إذا رضي هذا رضي هذا، وإذا أغضبها ‏[‏هذا أغضبها‏]‏ الآخر‏:‏ فهل يحل ذلك‏؟‏

فأجاب‏:‏

يجب على كل من الزوجين أن يمسك زوجته بمعروف أو يسرحها بإحسان، ولا له أن يعلق ذلك على فعل الزوج الآخر؛ فإن المرأة لها حق على زوجها، وحقها لا يسقط بظلم أبيها وأخيها، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى‏}‏‏[‏الأنعام‏:‏ 164‏]‏، فإذا كان أحدهما يظلم زوجته وجب إقامة الحق عليه؛ ولم يحل للآخر أن يظلم زوجته لكونها بنتًا للأول‏.‏ وإذا كان كل منهما يظلم زوجته لأجل ظلم الآخر فيستحق كل منهما العقوبة، وكان لزوجة كل منهما أن تطلب حقها من زوجها، ولو شرط هذا في النكاح لكان هذا شرطًا باطلا من جنس ‏[‏نكاح الشغار‏]‏ وهو أن يزوج الرجل أخته أو ابنته على أن يزوجه الآخر ابنته أو أخته، فكيف إذا زوجه على أنه إن أنصفها أنصف الآخر، وإن ظلمها ظلم الآخر زوجته؛ فإن هذا محرم بإجماع المسلمين، ومن فعل ذلك استحق العقوبة التي تزجره عن مثل ذلك‏.‏

/ وسئل الشيخ ـ رحمه الله ـ عن رجل متزوج بخالة إنسان، وله بنت، فتزوج بها، فجمع بين خالته وابنته‏:‏ فهل يصح‏؟‏

فأجاب‏:‏

لا يجوز أن يتزوج خالة رجل وابنته بأن يجمع بينهما؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ نهي أن يجمع بين المرأة وعمتها، وبين المرأة وخالتها، وهذا متفق عليه بين الأئمة الأربعة، وهم متفقون على أن هذا الحديث يتناول خالة الأب وخالة الأم والجدة، ويتناول عمة كل من الأبوين أيضا، فليس له أن يجمع بين المرأة وخالة أبيها، ولا خالة أمها عند الأئمة الأربعة‏.‏

 وسئل عن رجل جمع في نكاح واحد بين خالة رجل وابنة أخ له من الأبوين‏:‏ فهل يجوز الجمع بينهما أم لا‏؟‏

فأجاب‏:‏

الجمع بين هذه المرأة وبين الأخرى هو الجمع بين المرأة وبين خالة أبيها؛ فإن أباها إذا كان أخا لهذا الآخر من أمه، أو أمه وأبيه، كانت / خالة هذا خالة هذا، بخلاف ما إذا كان أخاه من أبيه فقط؛ فإنه لا تكون خالة أحدهما خالة الآخر، بل تكون عمته‏.‏ والجمع بين المرأة وخالة أبيها وخالة أمها، أو عمة أبيها، أو عمة أمها، كالجمع بين المرأة وعمتها وخالتها عند أئمة المسلمين، وذلك حرام باتفاقهم‏.‏

وإذا تزوج إحداهما بعد الأخرى كان نكاح الثانية باطلا، لا يحتاج إلى طلاق، ولا يجب بعقد مهر ولا ميراث، ولا يحل له الدخول بها، وإن دخل بها فارقها، كما تفارق الأجنبية، فإن أراد نكاح الثانية فارق الأولي، فإذا انقضت عدتها تزوج الثانية، فإن تزوجها في عدة طلاق رجعي لم يصح العقد الثاني باتفاق الأئمة، وإن كان الطلاق بائنا لم يجز في مذهب أبي حنيفة وأحمد، وجاز في مذهب مالك والشافعي‏.‏ فإذا طلقها طلقة أو طلقتين بلا عوض كان الطلاق رجعيا، ولم يصح نكاح الثانية حتى تنقضي عدة الأولى باتفاق الأئمة فإن تزوجها لم يجز أن يدخل بها، فإن دخل بها في النكاح الفاسد وجب عليه أن يعتزلها، فإنها أجنبية، ولا يعقد عليها حتى تنقضي عدة الأولى المطلقة باتفاق الأئمة‏.‏ وهل له أن يتزوج هذه الموطوءة بالنكاح الفاسد في عدتها منه‏؟‏فيه قولان للعلماء‏:‏

أحدهما‏:‏ يجوز، وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي‏.‏

والثاني‏:‏ لا يجوز، وهو مذهب مالك، وفي مذهب أحمد القولان‏.‏

/ وسئل شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ عن رجل اشترى جارية، ووطئها، ثم ملكها لولده‏:‏ فهل يجوز لولده وطؤها‏؟‏

فأجاب‏:‏

الحمد لله، لا يجوز للابن أن يطأها بعد وطء أبيه والحال هذه باتفاق المسلمين‏.‏ ومن استحل ذلك فإنه يستتاب، فإن تاب وإلا قتل، وفي السنن عن البراء بن عازب، قال‏:‏ رأيت خالي أبا بردة ومعه رايته، فقلت‏:‏ إلى أين‏؟‏فقال‏:‏ بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رجل تزوج امرأة أبيه، فأمرني أن أضرب عنقه، وأخمس ماله‏.‏ ولا نزاع بين الأئمة أنه لا فرق بين وطئها بالنكاح، وبين وطئها بملك اليمين‏.‏

 وسئل ـ رحمه الله ـ عن رجل تزوج بامرأة من مدة سنة ولم يدخل بها، وطلقها قبل الإصابة‏:‏ فهل يجوز له أن يدخل بالأم بعد طلاق البنت‏؟‏

فأجاب‏:‏

لا يجوز تزويج أم امرأته، وإن لم يدخل بها‏.‏ والله أعلم‏.‏

 /وسئل شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ عن رجل طلق امرأته وهي مرضعة لولده، فلبثت مطلقة ثمانية أشهر، ثم تزوجت برجل آخر، فلبثت معه دورة شهر، ثم طلقها، فلبثت مطلقة ثلاثة أشهر، ولم تحض، لا في الثمانية الأولي، ولا في مدة عصمتها مع الرجل الثاني، ولا في الثلاثة الأشهر الأخيرة، ثم تزوج بها المطلق الأول أبو الولد‏:‏ فهل يصح هذان العقدان‏؟‏ أو أحدهما‏؟‏

فأجاب‏:‏

الحمد لله، لا يصح العقد الأول والثاني، بل عليها أن تكمل عدة الأول، ثم تقضي عدة الثاني‏.‏ ثم بعد انقضاء العدتين تتزوج من شاءت منهما‏.‏ والله أعلم‏.‏

 وسئل ـ رحمه الله تعالى ـ عن رجل تزوج امرأة من مدة ثلاث سنين، رزق منها ولدا له من العمر سنتان، وذكرت أنها لما تزوجت لم تحض إلا حيضتين، وصدقها الزوج، وكان قد طلقها ثانيا على هذا العقد المذكور‏:‏ فهل يجوز الطلاق على هذا العقد المفسوخ‏؟‏

/فأجاب‏:‏

إن صدقها الزوج في كونها تزوجت قبل الحيضة الثالثة فالنكاح باطل، وعليه أن يفارقها، وعليها أن تكمل عدة الأول، ثم تعتد من وطء الثاني‏.‏ فإن كانت حاضت الثالثة قبل أن يطأها الثاني فقد انقضت عدة الأول، ثم إذا فارقها الثاني اعتدت له ثلاث حيض، ثم تزوج من شاءت بنكاح جديد، وولده ولد حلال يلحقه نسبه؛ وإن كان قد ولد بوطء في عقد فاسد لا يعلم فساده‏.‏

 وسئل ـ رحمه الله ـ عن مطلقة أدعت وحلفت أنها قضت عدتها، فتزوجها زوج ثان، ثم حضرت امرأة أخرى وزعمت أنها حاضت حيضتين، وصدقها الزوج على ذلك‏؟‏

فأجاب‏:‏

إذا لم تحض إلا حيضتين فالنكاح الثاني باطل باتفاق الأئمة، وإذا كان الزوج مصدقا لها وجب أن يفرق بينهما؛ فتكمل عدة الأول بحيضة، ثم تعتد من وطء الثاني عدة كاملة، ثم بعد ذلك إن شاء الثاني أن يتزوجها تزوجها‏.‏

 وسئل عن امرأة بانت فتزوجت بعد شهر ونصف بحيضة واحدة‏؟‏

فـأجاب‏:‏

تفارق هذا الثاني، وتتم عدة الأول بحيضتين، ثم بعد ذلك تعتد من وطء الثاني بثلاث حيضات، ثم بعد ذلك يتزوجها بعقد جديد‏.‏

/ وسئل شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ عن رجل عقد العقد على أنها تكون بالغا، ولم يدخل بها، ولم يصبها، ثم طلقها ثلاثا، ثم عقد عليها شخص آخر، ولم يدخل بها ولم يصبها، ثم طلقها ثلاثا‏:‏ فهل يجوز للذي طلقها أولاً أن يتزوج بها‏؟‏

فأجاب‏:‏

إذا طلقها قبل الدخول فهو كما لو طلقها بعد الدخول عند الأئمة الأربعة، لا تحل له حتى تنكح زوجا غيره، ويدخل بها، فإذا طلقها قبل الدخول لم تحل للأول‏.‏

 وسئل ـ رحمه الله ـ عن رجل تزوج بنتا بكرا، ثم طلقها ثلاثا ولم يصيبها‏:‏ فهل يجوز أن يعقد عليها عقدا ثانيا، أم لا‏؟‏

فأجاب‏:‏

طلاق البكر ثلاثا كطلاق المدخول بها ثلاثا عند أكثر الأئمة‏.‏

/ وسئل ـ رحمه الله تعالى ـ عمن يقول‏:‏ إن المرأة إذا وقع بها الطلاق الثلاث تباح بدون نكاح ثان للذي طلقها ثلاثا‏:‏ فهل قال هذا القول أحد من المسلمين، ومن قال هذا القول ماذا يجب عليه‏؟‏ومن استحلها بعد وقوع الثلاث بدون نكاح ثان ماذا يجب عليه‏؟‏وما صفة النكاح الثاني الذي يبيحها للأول‏؟‏أفتونا مأجورين مثابين يرحمكم الله‏.‏

فأجاب ـ رضي الله عنه‏:‏

الحمد لله رب العالمين، إذا وقع بالمرأة الطلاق الثلاث فإنها تحرم عليه حتى تنكح زوجا غيره بالكتاب والسنة وإجماع الأمة، ولم يقل أحد من علماء المسلمين‏:‏ إنها تباح بعد وقوع الطلاق الثلاث بدون زوج ثان، ومن نقل هذا عن أحد منهم فقد كذب‏.‏ ومن قال ذلك أو استحل وطأها بعد وقوع الطلاق الثلاث بدون نكاح زوج ثان، فإن كان جاهـلا يعـذر بجهله ـ مثل أن يكون نشأ بمكان قوم لا يعرفون فيه شرائع الإسلام، أو يكون حديث عهد بالإسلام، أو نحو ذلك ـ فإنه يعرف دين الإسلام؛ فإن أصر على القول بأنها تباح بعد وقوع الثلاث بدون نكاح ثان أو على استحلال هذا الفعل، فإنه يستتاب، فإن تاب وإلا قتل، كأمثاله من / المرتدين الذين يجحدون وجوب الواجبات، وتحريم المحرمات، وحل المباحات التي علم أنها من دين الإسلام، وثبت ذلك بنقل الأمة المتواتر عن نبيها عليه أفضل الصلاة والسلام‏.‏ وظهر ذلك بين الخاص والعام، كمن يجحد وجوب ‏[‏مباني الإسلام‏]‏ من الشهادتين، والصلوات الخمس، وصيام شهر رمضان، وحج البيت الحرام، أو جحد ‏[‏تحريم الظلم، وأنواعه‏]‏ كالربا والميسر، أو تحريم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وما يدخل في ذلك من تحريم ‏[‏نكاح الأقارب‏]‏ سوي بنات العمومة والخؤولة، وتحريم ‏[‏المحرمات بالمصاهرة‏]‏ وهن أمهات النساء وبناتهن وحلائل الآباء والأبناء ونحو ذلك من المحرمات، أو حل الخبز، واللحم، والنكاح واللباس؛ وغير ذلك مما علمت إباحته بالاضطرار من دين الإسلام‏.‏ فهذه المسائل مما لم يتنازع فيها المسلمون، لاسنيهم ولا بدعيهم‏.‏

 ولكن تنازعوا في مسائل كثيرة من ‏[‏مسائل الطلاق والنكاح‏]‏ وغير ذلك من الأحكام‏:‏ كتنازع الصحابة والفقهاء بعدهم في ‏[‏الحرام‏]‏ هل هو طلاق، أو يمين، أو غير ذلك‏؟‏وكتنازعهم في ‏[‏الكنايات الظاهرة‏]‏ كالخلية، والبرية، والبتة‏:‏ هل يقع بها واحدة رجعية، أو بائن، أو ثلاث‏؟‏أو يفرق بين حال وحال‏؟‏وكتنازعهم في ‏[‏المولي‏]‏‏:‏ هل يقع به الطلاق عند انقضاء المدة إذا لم يف فيها‏؟‏أم يوقف بعد انقضائها حتى يفيء أو يطلق‏؟‏وكتنازع العلماء في طلاق السكران، والمكره، وفي الطلاق بالخط، وطلاق / الصبي المميز، وطلاق الأب على ابنه‏.‏ وطلاق الحكم الذي هو من أهل الزوج بدون توكيله‏.‏ كما تنازعوا في بذل أجر العوض بدون توكيلها‏.‏ وغير ذلك من المسائل التي يعرفها العلماء‏.‏ وتنازعوا ـ أيضا ـ في مسائل ‏[‏تعليق الطلاق بالشرط‏]‏ ومسائل ‏[‏الحلف بالطلاق، والعتاق، والظهار، والحرام، والنذر‏]‏ كقوله‏:‏ إن فعلت كذا فعلى الحج أو صوم شهر أو الصدقة بألف‏.‏ وتنازعوا ـ أيضًا ـ في كثير من مسائل ‏[‏الأيمان‏]‏ مطلقا في موجب اليمين‏.‏

وهذا كتنازعهم في تعليق الطلاق بالنكاح‏:‏ هل يقع أولا يقع‏؟‏أو يفرق بين العموم والخصوص‏؟‏أو بين ما يكون فيه مقصود شرعي وبين أن يقع في نوع ملك أو غير ملك‏؟‏وتنازعوا في الطلاق المعلق بالشرط بعد النكاح‏؟‏على ثلاثة أقوال‏:‏ فقيل‏:‏ يقع مطلقا‏.‏ وقيل‏:‏ لا يقع‏.‏ وقيل‏:‏ يفرق بين الشرط الذي يقصد وقوع الطلاق عند كونه، وبين الشرط الذي يقصد عدمه‏.‏ وعدم الطلاق عنده‏.‏ فالأول كقوله‏:‏ إن أعطيتني ألفا فأنت طالق‏.‏ والثاني كقوله‏:‏ إن فعلت كذا فعبيدي أحرار، ونسائي طوالق، وعلى الحج‏.‏

وأما النذر المعلق بالشرط، فاتفقوا على أنه إذا كان مقصوده وجود الشرط كقوله‏:‏ إن شفي الله مريضي، أو سلم مالي الغائب فعلى صوم شهر، أو الصدقة بمائة، أنه يلزمه‏.‏ وتنازعوا فيما إذا لم يكن مقصوده وجود الشرط، بل مقصوده عدم الشرط، وهو حالف بالنذر، كما إذا قال‏:‏ لا أسافر، وإن سافرت / فعلى الصوم، أو الحج، أو الصدقة، أو على عتق رقبة‏.‏ ونحو ذلك‏؟‏على ثلاثة أقوال‏:‏ فالصحابة وجمهور السلف على أنه يجزيه كفارة يمين، وهو مذهب الشافعي وأحمد، وهو آخر الروايتين عن أبي حنيفة، وقول طائفة من المالكية؛ كابن وهب، وابن أبي العمر، وغيرهما‏.‏ وهل يتعين ذلك، أم يجزيه الوفاء‏؟‏على قولين في مذهب الشافعي وأحمد‏.‏ وقيل‏:‏ عليه الوفاء، كقول مالك، وإحدى الروايتين عن أبي حنيفة، وحكاه بعض المتأخرين قولا للشافعي؛ ولا أصل له في كلامه‏.‏ وقيل‏:‏ لا شيء عليه بحال، كقول طائفة من التابعين، وهو قول داود، وابن حزم‏.‏

وهكذا تنازعوا على هذه الأقوال الثلاثة فيمن حلف بالعتاق أو الطلاق ألا يفعل شيئا كقوله‏:‏ إن فعلت كذا فعبدي حر، أو امرأتي طالق‏.‏ هل يقع ذلك إذا حنث، أو يجزيه كفارة يمين، أو لا شيء عليه‏؟‏على ثلاثة أقوال‏.‏ ومنهم من فرق بين الطلاق والعتاق‏.‏ واتفقوا على أنه إذا قال‏:‏ إن فعلت كذا فعلى أن أطلق امرأتي لا يقع به الطلاق، بل ولا يجب عليه إذ لم يكن قربة، ولكن هل عليه كفارة يمين‏؟‏على قولين‏:‏ أحدهما‏:‏ يجب عليه كفارة يمين، وهو مذهب أحمد في المشهور عنه، ومذهب أبي حنيفة فيما حكاه ابن المنذر والخطابي وابن عبد البر وغيرهم، وهو الذي وصل إلينا في كتب أصحابه، وحكي القاضي أبو يعلى وغيره‏.‏ وعنه أنه لا كفارة فيه، والثاني‏:‏ لا شيء عليه، وهو مذهب الشافعي‏.‏